الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب خُرُوجِ الْخَطَايَا مَعَ مَاءِ الْوُضُوءِ: قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُرَاد بِخُرُوجِهَا مَعَ الْمَاء الْمَجَاز وَالِاسْتِعَارَة فِي غُفْرَانهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ فَتَخْرُج حَقِيقَة. وَاَللَّه أَعْلَم. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: دَلِيل عَلَى الرَّافِضَة وَإِبْطَال لِقَوْلِهِمْ: الْوَاجِب مَسْح الرِّجْلَيْنِ. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَطَشَتهَا يَدَاهُ وَمَشَتْهَا رِجْلَاهُ» مَعْنَاهُ اِكْتَسَبَتْهَا. 361- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَعْمَر بْن رِبْعِيّ الْقَيْسِيّ حَدَّثَنَا أَبُو هِشَام الْمَخْزُومِيّ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول الَّتِي بِبِلَادِنَا (أَبُو هِشَام) وَهُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ بَعْض رُوَاتهمْ، قَالَ: وَوَقَعَ لِأَكْثَر الرُّوَاة أَبُو هَاشِم، قَالَ: وَالصَّوَاب الْأَوَّل وَاسْمه الْمُغِيرَة بْن سَلَمَة، وَكَانَ مِنْ الْأَحْبَار الْمُتَعَبِّدِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ. .باب اسْتِحْبَابِ إِطَالَةِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ فِي الْوُضُوءِ: 362- قَوْله: (عَنْ نُعَيْم بْن عَبْد اللَّه الْمُجْمِر) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم الْأُولَى وَإِسْكَان الْجِيم وَكَسْر الْمِيم الثَّانِيَة، وَيُقَال: الْمُجَمَّر بِفَتْحِ الْجِيم وَتَشْدِيد الْمِيم الثَّانِيَة الْمَكْسُورَة، وَقِيلَ لَهُ: الْمُجْمِر لِأَنَّهُ كَانَ يُجْمِر مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: يُبَخِّرهُ، وَالْمُجْمِر صِفَة لِعَبْدِ اللَّه، وَيُطْلَق عَلَى اِبْنه نُعَيْم مَجَازًا. وَاَللَّه أَعْلَم. قَوْله: (أَشْرَعَ فِي الْعَضُد وَأَشْرَعَ فِي السَّاق) مَعْنَاهُ أَدْخَلَ الْغُسْل فيهمَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمْ الْغُرّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ آثَار الْوُضُوء» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْغُرَّة بَيَاض فِي جَبْهَة الْفَرَس، وَالتَّحْجِيل بَيَاض فِي يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، قَالَ الْعُلَمَاء: سُمِّيَ النُّور الَّذِي يَكُون عَلَى مَوَاضِع الْوُضُوء يَوْم الْقِيَامَة غُرَّة وَتَحْجِيلًا تَشْبِيهًا بِغُرَّةِ الْفَرَس. وَاَللَّه أَعْلَم. 364- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَم تَرِدُونَ عَلِيّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَر الْوُضُوء» أَمَّا (السِّيمَا) فَهِيَ الْعَلَامَة وَهِيَ مَقْصُورَة وَمَمْدُودَة لُغَتَانِ، وَيُقَال: (السِّيمِيَا) بِيَاءٍ بَعْد الْمِيم مَعَ الْمَدّ، وَقَدْ اِسْتَدَلَّ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْوُضُوء مِنْ خَصَائِص هَذِهِ الْأُمَّة- زَادَهَا اللَّه تَعَالَى شَرَفًا- وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ الْوُضُوء مُخْتَصًّا بِهَا وَإِنَّمَا الَّذِي اِخْتَصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة الْغُرَّة وَالتَّحْجِيل، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْآخَر: «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوء الْأَنْبِيَاء قَبْلِي»، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِجَوَابَيْنِ أَحَدهمَا: أَنَّهُ حَدِيث ضَعِيف مَعْرُوف الضَّعْف، وَالثَّانِي: لَوْ صَحَّ اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُون الْأَنْبِيَاء اِخْتَصَّتْ بِالْوُضُوءِ دُون أُمَمهمْ إِلَّا هَذِهِ الْأُمَّة. وَاَللَّه أَعْلَم. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي لَأَصُدّ النَّاس عَنْهُ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَأَنَا أَذُود النَّاس عَنْهُ» هُمَا بِمَعْنَى: أَطْرُد وَأَمْنَع. 365- قَوْله: (وَأَنَا أَذُودُ النَّاس عَنْهُ) هُمَا بِمَعْنَى: أَطْرُد وَأَمْنَع. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُجِيبنِي مَلَك» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول (فَيُجِيبنِي) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة مِنْ الْجَوَاب، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ جَمِيع الرُّوَاة إِلَّا اِبْن أَبِي جَعْفَر مِنْ رُوَاتهمْ فَإِنَّهُ عِنْده (فَيَجِيئنِي) بِالْهَمْزِ مِنْ الْمَجِيء وَالْأَوَّل أَظْهَر، وَالثَّانِي وَجْه. وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله: «وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدك» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «قَدْ بَدَّلُوا بَعْدك، فَأَقُول سُحْقًا سُحْقًا» هَذَا مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِهِ عَلَى أَقْوَال أَحَدهَا: أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُرْتَدُّونَ فَيَجُوز أَنْ يُحْشَرُوا بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيل فَيُنَادِيهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسِّيمَا الَّتِي عَلَيْهِمْ فَيُقَال: لَيْسَ هَؤُلَاءِ مِمَّا وُعِدْت بِهِمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ بَدَّلُوا بَعْدك، أَيْ: لَمْ يَمُوتُوا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ إِسْلَامهمْ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد مَنْ كَانَ فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اِرْتَدَّ بَعْده، فَيُنَادِيهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ سِيمَا الْوُضُوء لَمَا كَانَ يَعْرِفهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاته مِنْ إِسْلَامهمْ فَيُقَال: اِرْتَدُّوا بَعْدك، وَالثَّالِث: أَنَّ الْمُرَاد بِهِ أَصْحَاب الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِر الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى التَّوْحِيد وَأَصْحَاب الْبِدَع الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا بِبِدْعَتِهِمْ عَنْ الْإِسْلَام، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل لَا يَقَع لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُذَادُونَ بِالنَّارِ، بَلْ يَجُوز أَنْ يُذَادُوا عُقُوبَة لَهُمْ ثُمَّ يَرْحَمهُمْ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّة بِغَيْرِ عَذَاب. قَالَ أَصْحَاب هَذَا الْقَوْل: وَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُون لَهُمْ غُرَّة وَتَحْجِيل، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون كَانُوا فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْده لَكِنْ عَرَفَهُمْ بِالسِّيمَا. وَقَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو عَمْرو بْن عَبْد الْبَرّ: كُلّ مَنْ أَحْدَث فِي الدِّين فَهُوَ مِنْ الْمَطْرُودِينَ عَنْ الْحَوْض كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِض وَسَائِر أَصْحَاب الْأَهْوَاء، قَالَ: وَكَذَلِكَ الظَّلَمَة الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْرِ وَطَمْسِ الْحَقِّ وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ، قَالَ: وَكُلّ هَؤُلَاءِ يُخَاف عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ عَنُوا بِهَذَا الْخَبَر. وَاللَّهُ أَعْلَم. 366- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» فيه جَوَاز الْحَلِف بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف وَلَا ضَرُورَة وَدَلَائِله كَثِيرَة. 367- قَوْله: (سُرَيْج بْن يُونُس) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَبِالْجِيمِ وَتَقَدَّمَ أَنَّ يُونُس بِضَمِّ النُّون وَكَسْرهَا وَفَتْحهَا مَعَ الْهَمْز فيهنَّ وَتَرْكه. وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبَرَة فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُمْ دَار قَوْم مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّه بِكُمْ لَاحِقُونَ» أَمَّا (الْمَقْبُرَة) فَبِضَمِّ الْبَاء وَفَتْحهَا وَكَسْرهَا ثَلَاث لُغَات الْكَسْر قَلِيل. وَأَمَّا (دَار قَوْم) فَهُوَ بِنَصْبِ دَار، قَالَ صَاحِب الْمَطَالِع: هُوَ مَنْصُوب عَلَى الِاخْتِصَاص أَوْ النِّدَاء الْمُضَاف، وَالْأَوَّل أَظْهَر، قَالَ: وَيَصِحّ الْخَفْض عَلَى الْبَدَل مِنْ الْكَاف وَالْمِيم فِي (عَلَيْكُمْ)، وَالْمُرَاد بِالدَّارِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ: الْجَمَاعَة أَوْ أَهْل الدَّار، وَعَلَى الْأَوَّل مِثْله أَوْ الْمَنْزِل. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّه بِكُمْ لَاحِقُونَ» فَأَتَى بِالِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَوْت لَا شَكّ فيه، وَلِلْعُلَمَاءِ فيه أَقْوَال أَظْهَرهَا: أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّكِّ وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ لِلتَّبَرُّكِ وَامْتِثَال أَمْر اللَّه تَعَالَى فِي قَوْله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِل ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه} وَالثَّانِي: حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره أَنَّهُ عَادَة لِلْمُتَكَلِّمِ يُحْسِن بِهِ كَلَامه، وَالثَّالِث: أَنَّ الِاسْتِثْنَاء عَائِد إِلَى اللُّحُوق فِي هَذَا الْمَكَان، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِذْ شَاءَ اللَّه. وَقِيلَ: أَقْوَال أُخَر ضَعِيفَة جِدًّا تَرَكْتهَا لِضَعْفِهَا وَعَدَم الْحَاجَة إِلَيْهَا، مِنْهَا قَوْل مَنْ قَالَ: الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِع رَاجِع إِلَى اِسْتِصْحَاب الْإِيمَان، وَقَوْل مَنْ قَالَ: كَانَ مَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنُونَ حَقِيقَة، وَآخَرُونَ يَظُنّ بِهِمْ النِّفَاق، فَعَادَ الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمْ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ- وَإِنْ كَانَا مَشْهُورَيْنِ- فيهمَا خَطَأ ظَاهِر. وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَدِدْت أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَاننَا قَالُوا: أَوَ لَسْنَا إِخْوَانك يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَاننَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْد» قَالَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز التَّمَنِّي لاسيما فِي الْخَيْر وَلِقَاء الْفُضَلَاء وَأَهْل الصَّلَاح وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَدِدْت أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَاننَا» أَيْ: رَأَيْنَاهُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقِيلَ: الْمُرَاد: تَمَّنِي لِقَائِهِمْ بَعْد الْمَوْت. قَالَ الْإِمَام الْبَاجِيّ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي» لَيْسَ نَفْيًا لِإِخْوَتِهِمْ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مَرْتَبَتهمْ الزَّائِدَة بِالصُّحْبَةِ، فَهَؤُلَاءِ إِخْوَة صَحَابَة، وَاَلَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا إِخْوَة لَيْسُوا بِصَحَابَةٍ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: ذَهَبَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره مِنْ الْأَحَادِيث فِي فَضْل مَنْ يَأْتِي آخِر الزَّمَان إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُون فِيمَنْ يَأْتِي بَعْد الصَّحَابَة مَنْ هُوَ أَفْضَل مِمَّنْ كَانَ مِنْ جُمْلَة الصَّحَابَة، وَأَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْركُمْ قَرْنِي» عَلَى الْخُصُوص مَعْنَاهُ: خَيْر النَّاس قَرْنِي أَيْ: السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكهمْ، فَهَؤُلَاءِ أَفْضَل الْأُمَّة وَهُمْ الْمُرَادُونَ بِالْحَدِيثِ، وَأَمَّا مَنْ خَلَطَ فِي زَمَنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ رَآهُ وَصَحِبَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَابِقَة وَلَا أَثَرَ فِي الدِّين فَقَدْ يَكُون فِي الْقُرُون الَّتِي تَأْتِي بَعْد الْقَرْن الْأَوَّل مَنْ يَفْضُلهُمْ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَار. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَيْضًا غَيْره مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْمَعَانِي، قَالَ: وَذَهَبَ مُعْظَم الْعُلَمَاء إِلَى خِلَاف هَذَا، وَأَنَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ مَرَّة مِنْ عُمْره وَحَصَلَتْ لَهُ مَزِيَّة الصُّحْبَة أَفْضَل مِنْ كُلّ مَنْ يَأْتِي بَعْده، فَإِنَّ فَضِيلَة الصُّحْبَة لَا يَعْدِلهَا عَمَل، قَالُوا: وَذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدكُمْ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه». هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَاَللَّه أَعْلَم. قَوْله: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْل غُرّ مُحَجَّلَة بَيْن ظَهْرِيْ خَيْل دُهْمٍ بُهْم» أَمَّا: «بَيْن ظَهْرِيْ»: فَمَعْنَاهُ: بَيْنهمَا وَهُوَ بِفَتْحِ الظَّاء وَإِسْكَان الْهَاء. وَأَمَّا: «الدُّهْم»: فَجَمْع أَدْهَم وَهُوَ الْأَسْوَد وَالدُّهْمَة السَّوَاد. وَأَمَّا: «الْبُهْم»: فَقِيلَ السُّود أَيْضًا، وَقِيلَ: الْبُهْم: الَّذِي لَا يُخَالِط لَوْنه لَوْنًا سِوَاهُ سَوَاء كَانَ أَسْوَد أَوْ أَبْيَض أَوْ أَحْمَر، بَلْ يَكُون لَوْنه خَالِصًا، وَهَذَا قَوْل اِبْن السِّكِّيت وَأَبِي حَاتِم السِّخْتِيَانِيّ وَغَيْرهمَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْض» قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره: مَعْنَاهُ أَنَا أَتَقَدَّمهُمْ عَلَى الْحَوْض يُقَال: فَرَطَ الْقَوْم إِذَا تَقَدَّمَهُمْ لِيَرْتَادَ لَهُمْ الْمَاء، وَيُهَيِّئ لَهُمْ الدِّلَاء وَالرِّشَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: بِشَارَة لِهَذِهِ الْأُمَّة- زَادَهَا اللَّه تَعَالَى شَرَفًا- فَهَنِيئًا لِمَنْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَطَهُ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ» مَعْنَاهُ: تَعَالَوْا، قَالَ أَهْل اللُّغَة: فِي (هَلُمَّ) لُغَتَانِ أَفْصَحُهُمَا: هَلُمَّ لِلرَّجُلِ وَالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَة وَالْجَمَاعَة مِنْ الصِّنْفَيْنِ بِصِيغَةٍ وَاحِدَة، وَبِهَذِهِ اللُّغَة جَاءَ الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ}، {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وَاللُّغَة الثَّانِيَة: هَلُمَّ يَا رَجُل وَهَلُمَّا يَا رَجُلَانِ وَهَلُمُّوا يَا رِجَال وَلِلْمَرْأَةِ (هَلُمِّي) وَلَلْمَرْأَتَانِ (هَلُمَّتَا) وَلِلنِّسْوَةِ (هَلُمَّنَّ)، قَالَ اِبْن السِّكِّيت وَغَيْره: الْأُولَى أَفْصَح كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَقُول سُحْقًا سُحْقًا» هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات (سُحْقًا سُحْقًا) مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَاهُ (بُعْدًا بُعْدًا)، وَالْمَكَان السَّحِيق: الْبَعِيد، وَفِي (سُحْقًا سُحْقًا) لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع إِسْكَان الْحَاء وَضَمِّهَا، قَرَأَ الْكِسَائِيّ بِالضَّمِّ، وَالْبَاقُونَ بِالْإِسْكَانِ وَنُصِبَ عَلَى تَقْدِير: أَلْزَمَهُمْ اللَّه سُحْقًا أَوْ سَحَقَهُمْ سُحْقًا. .باب تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ: .باب فَضْلِ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ: قَوْله: وَفِي حَدِيث مَالِك ثِنْتَيْنِ: «فَذَلِكُمْ الرِّبَاط فَذَلِكُمْ الرِّبَاط» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول ثِنْتَيْنِ وَهُوَ صَحِيح وَنَصَبَهُ بِتَقْدِيرِ فِعْل أَيْ ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ كَرَّرَ ثِنْتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم تَكْرَاره مَرَّتَيْنِ، وَفِي الْمُوَطَّأ ثَلَاث مَرَّات: «فَذَلِكُمْ الرِّبَاط فَذَلِكُمْ الرِّبَاط فَذَلِكُمْ الرِّبَاط». وَأَمَّا حِكْمَة تَكْرَاره فَقِيلَ: لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَتَعْظِيم شَأْنه وَقِيلَ: كَرَّرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَادَته فِي تَكْرَار الْكَلَام لِيُفْهَمْ عَنْهُ وَالْأَوَّل أَظْهَر. وَاللَّهُ أَعْلَم. .باب السِّوَاكِ: ثُمَّ إِنَّ السِّوَاك سُنَّة، لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَال مِنْ الْأَحْوَال لَا فِي الصَّلَاة وَلَا فِي غَيْرهَا بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ فِي الْإِجْمَاع، وَقَدْ حَكَى الشَّيْخ أَبُو حَامِد الْإِسْفَرَايِنِيُّ إِمَام أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيِّينَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيّ أَنَّهُ أَوْجَبَهُ لِلصَّلَاةِ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ دَاوُدَ وَقَالَ: هُوَ عِنْده وَاجِب لَوْ تَرَكَهُ لَمْ تَبْطُل صَلَاته، وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاق بْن رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ وَاجِب فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاته، وَقَدْ أَنْكَرَ أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى الشَّيْخ أَبِي حَامِد وَغَيْره نَقْلَ الْوُجُوب عَنْ دَاوُدَ، وَقَالُوا: مَذْهَبه أَنَّهُ سُنَّة كَالْجَمَاعَةِ، وَلَوْ صَحَّ إِيجَابه عَنْ دَاوُدَ لَمْ تَضُرّ مُخَالَفَته فِي اِنْعِقَاد الْإِجْمَاع عَلَى الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ، وَأَمَّا إِسْحَاق فَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَحْكِيّ عَنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم. ثُمَّ إِنَّ السِّوَاك مُسْتَحَبّ فِي جَمِيع الْأَوْقَات، وَلَكِنْ فِي خَمْسَة أَوْقَات أَشَدّ اِسْتِحْبَابًا: أَحَدهَا: عِنْد الصَّلَاة سَوَاء كَانَ مُتَطَهِّرًا بِمَاءٍ أَوْ بِتُرَابٍ، أَوْ غَيْر مُتَطَهِّر كَمَنْ لَمْ يَجِد مَاء وَلَا تُرَابًا، الثَّانِي: عِنْد الْوُضُوء، الثَّالِث: عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن، الرَّابِع: عِنْد الِاسْتِيقَاظ مِنْ النَّوْم، الْخَامِس: عِنْد تَغَيُّر الْفَم؛ وَتَغَيُرُهُ يَكُون بِأَشْيَاء مِنْهَا: تَرْك الْأَكْل وَالشُّرْب، وَمِنْهَا: أَكْل مَا لَهُ رَائِحَة كَرِيهَة، وَمِنْهَا طُول السُّكُوت، وَمِنْهَا: كَثْرَة الْكَلَام. وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ: أَنَّ السِّوَاك يُكْرَه لِلصَّائِمِ بَعْد زَوَال الشَّمْس لِئَلَّا يُزِيل رَائِحَة الْخُلُوف الْمُسْتَحَبَّة، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَسْتَاك بِعُودٍ مِنْ أَرَاك، وَبِأَيِّ شَيْء اِسْتَاك مِمَّا يُزِيل التَّغَيُّر حَصَلَ السِّوَاك كَالْخِرْقَةِ الْخَشِنَة وَالسَّعْد وَالْأُشْنَان، وَأَمَّا الْإِصْبَع فَإِنْ كَانَتْ لَيِّنَة لَمْ يَحْصُل بِهَا السِّوَاك، وَإِنْ كَانَتْ خَشِنَة فَفيها ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: الْمَشْهُور: لَا تُجْزِي، وَالثَّانِي: تُجْزِي، وَالثَّالِث: تُجْزِي إِنْ لَمْ يَجِد غَيْرهَا، وَلَا تُجْزِي إِنْ وَجَدَ، وَالْمُسْتَحَبّ أَنْ يَسْتَاك بِعُودٍ مُتَوَسِّط لَا شَدِيد الْيُبْس يَجْرَح، وَلَا رَطْب لَا يُزِيل، وَالْمُسْتَحَبّ أَنْ يَسْتَاك عَرْضًا وَلَا يَسْتَاك طُولًا لِئَلَّا يُدْمِي لَحْم أَسْنَانه، فَإِنْ خَالَفَ وَاسْتَاك طُولًا حَصَلَ السِّوَاك مَعَ الْكَرَاهَة، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَمُرّ السِّوَاك أَيْضًا عَلَى طَرَف أَسْنَانه وَكَرَاسِي أَضْرَاسه وَسَقْف حَلْقه إِمْرَارًا لَطِيفًا، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَبْدَأ فِي سِوَاكه بِالْجَانِبِ الْأَيْمَن مِنْ فيه، وَلَا بَأْس بِاسْتِعْمَالِ سِوَاك غَيْره بِإِذْنِهِ، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يُعَوَّد الصَّبِيّ السِّوَاك لِيَعْتَادَهُ. 370- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَوْ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ بِالسِّوَاكِ عِنْد كُلّ صَلَاة» فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ السِّوَاك لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُمْ بِهِ شَقَّ أَوَ لَمْ يَشُقّ، قَالَ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ الطَّوَائِف: فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَمْر لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ مَذْهَب أَكْثَر الْفُقَهَاء وَجَمَاعَات مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَاب الْأُصُول، قَالُوا: وَجْه الدَّلَالَة أَنَّهُ مَسْنُون بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَتْرُوك إِيجَابه، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَحْتَاج فِي تَمَامه إِلَى دَلِيل عَلَى أَنَّ السِّوَاك كَانَ مَسْنُونًا حَالَة قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ»، وَقَالَ جَمَاعَة أَيْضًا: فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوب لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، وَهَذَا فيه خِلَاف لِأَصْحَابِ الْأُصُول، وَيُقَال فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَال عَلَى الْوُجُوب. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَفيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَرِد فيه نَصّ مِنْ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا مَذْهَب أَكْثَر الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الْأُصُول، وَهُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار. وَفيه بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرِّفْق بِأُمَّتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفيه: دَلِيل عَلَى فَضِيلَة السِّوَاك عِنْد كُلّ صَلَاة. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان وَقْت اِسْتِحْبَابه. 372- قَوْله: (إِذَا دَخَلَ بَيْته بَدَأَ بِالسِّوَاكِ) فيه بَيَان فَضِيلَة السِّوَاك فِي جَمِيع الْأَوْقَات وَشِدَّة الِاهْتِمَام بِهِ وَتَكْرَاره. وَاَللَّه أَعْلَم. 373- قَوْله: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن حَبِيب الْحَارِثِيّ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ غَيْلَان، وَهُوَ اِبْن جَرِير الْمِعْوَلِيّ، عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) هَذَا الْإِسْنَاد كُلّه بَصْرِيُّونَ إِلَّا أَبَا بُرْدَة فَإِنَّهُ كُوفِيّ، وَأَمَّا (أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ) فَكُوفِيّ بَصْرِيّ، وَاسْم أَبِي بُرْدَة: عَامِر وَقِيلَ: الْحَارِث. و(الْمِعْوَلِيّ) بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْوَاو مَنْسُوب إِلَى الْمَعَاوِل بَطْن مِنْ الْأَزْدِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ ضَبْطه مُتَّفَق عَلَيْهِ عِنْد أَهْل الْعِلْم بِهَذَا الْفَنّ، وَكُلّهمْ مُصَرِّحُونَ بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم. 374- قَوْله: (إِذَا قَامَ لِيَتَهَجَّد يَشُوص فَاهُ بِالسِّوَاكِ) أَمَّا التَّهَجُّد فَهُوَ الصَّلَاة فِي اللَّيْل، وَيُقَال: هَجَدَ الرَّجُل إِذَا نَامَ، وَتَهَجَّدَ إِذَا خَرَجَ مِنْ الْهُجُود وَهُوَ النَّوْم بِالصَّلَاةِ، كَمَا يُقَال: تَحَنَّثَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَرَّجَ إِذَا اِجْتَنَبَ الْحِنْث وَالْإِثْم وَالْحَرَج. وَأَمَّا قَوْله: (يَشُوص فَاهُ بِالسِّوَاكِ) فَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الشِّين الْمُعْجَمَة وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَة، وَالشَّوْص دَلْك الْأَسْنَان بِالسِّوَاكِ عَرْضًا، قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَأَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيّ وَآخَرُونَ، وَقِيلَ: هُوَ الْغُسْل، قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره، وَقِيلَ: التَّنْقِيَة، قَالَهُ أَبُو عُبَيْد وَالدَّاوُدِيّ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَكّ قَالَهُ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ تَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ أَنَّهُ بِأُصْبُعِهِ. فَهَذِهِ أَقْوَال الْأَئِمَّة فيه، وَأَكْثَرهَا مُتَقَارِبَة، وَأَظْهَرهَا الْأَوَّل وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم. 376- قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّل أَنَّ اِبْن عَبَّاس حَدَّثَهُ) إِلَى آخِر هَذَا الْحَدِيث فيه فَوَائِد كَثِيرَة، وَيُسْتَنْبَط مِنْهُ أَحْكَام نَفِيسَة، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى هُنَا مُخْتَصَرًا، وَقَدْ بَسَطَ طُرُقه فِي كِتَاب الصَّلَاة، وَهُنَاكَ نَبْسُط شَرْحه وَفَوَائِده إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَنَذْكُر هُنَا أَحْرُفًا تَتَعَلَّق بِهَذَا الْقَدْر مِنْهُ هُنَا. فَاسْم (أَبِي الْمُتَوَكِّل) عَلِيّ بْن دَاوُدَ، وَيُقَال: اِبْن دَاوُدَ الْبَصْرِيّ. وَقَوْله: «فَخَرَجَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة فِي آلِ عِمْرَان: {إِنَّ فِي خَلْق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَات» فيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ قِرَاءَتهَا عِنْد الِاسْتِيقَاظ فِي اللَّيْل مَعَ النَّظَر إِلَى السَّمَاء لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ عَظِيم التَّدَبُّر، وَإِذَا تَكَرَّرَ نَوْمه وَاسْتِيقَاظه وَخُرُوجه اُسْتُحِبَّ تَكْرِيره قِرَاءَة هَذِهِ الْآيَات كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيث. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم. .باب خِصَالِ الْفِطْرَةِ: 378- قَوْله: «الْفِطْرَة خَمْس»، ثُمَّ فَسَّرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَمْس فَقَالَ: «الْخِتَان وَالِاسْتِحْدَاد وَتَقْلِيم الْأَظْفَار وَنَتْف الْإِبْط وَقَصّ الشَّارِب» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «عَشْر مِنْ الْفِطْرَة: قَصّ الشَّارِب وَإِعْفَاء اللِّحْيَة وَالسِّوَاك وَاسْتِنْشَاق الْمَاء وَقَصّ الْأَظْفَار وَغَسْل الْبَرَاجِم وَنَتْف الْإِبْط وَحَلْق الْعَانَة وَانْتِقَاص الْمَاء قَالَ مُصْعَب: وَنَسِيت الْعَاشِرَة إِلَّا أَنْ تَكُون الْمَضْمَضَة» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفِطْرَة خَمْس» فَمَعْنَاهُ خَمْس مِنْ الْفِطْرَة كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «عَشْر مِنْ الْفِطْرَة»، وَلَيْسَتْ مُنْحَصِرَة فِي الْعَشْر، وَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَدَم اِنْحِصَارهَا فيها بِقَوْلِهِ: «مِنْ الْفِطْرَة». وَاَللَّه أَعْلَم. وَأَمَّا الْفِطْرَة؛ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَاد بِهَا هُنَا؛ فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَر الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّهَا السُّنَّة، وَكَذَا ذَكَرَهُ جَمَاعَة غَيْر الْخَطَّابِيّ قَالُوا: وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مِنْ سُنَن الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ الدِّين، ثُمَّ إِنَّ مُعْظَم هَذِهِ الْخِصَال لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَنْد الْعُلَمَاء، وَفِي بَعْضهَا خِلَاف فِي وُجُوبه كَالْخِتَانِ وَالْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وَلَا يَمْتَنِع قَرْن الْوَاجِب بِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَره إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَاده} وَالْإِيتَاء وَاجِب، وَالْأَكْل لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَاَللَّه أَعْلَم. أَمَّا تَفْصِيلهَا (فَالْخِتَان) وَاجِب عِنْد الشَّافِعِيّ وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء، وَسُنَّة عِنْد مَالِك وَأَكْثَر الْعُلَمَاء، وَهُوَ عِنْد الشَّافِعِيّ وَاجِب عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّ الْوَاجِب فِي الرَّجُل أَنْ يَقْطَع جَمِيع الْجِلْدَة الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَة حَتَّى يَنْكَشِف جَمِيع الْحَشَفَة، وَفِي الْمَرْأَة يَجِب قَطْع أَدْنَى جُزْء مِنْ الْجَلْدَة الَّتِي فِي أَعْلَى الْفَرْج، وَالصَّحِيح مِنْ مَذْهَبنَا الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور أَصْحَابنَا أَنَّ الْخِتَان جَائِز فِي حَال الصِّغَر لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَنَا وَجْه أَنَّهُ يَجِب عَلَى الْوَلِيّ أَنْ يَخْتِنَ الصَّغِير قَبْل بُلُوغه، وَوَجْه أَنَّهُ يَحْرُم خِتَانه قَبْل عَشْر سِنِينَ، وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُخْتَنْ فِي الْيَوْم السَّابِع مِنْ وِلَادَته، وَهَلْ يُحْسَب يَوْم الْوِلَادَة مِنْ السَّبْع؟ أَمْ تَكُون سَبْعَة سِوَاهُ؟ فيه وَجْهَانِ أَظْهَرهُمَا يُحْسَب، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِل فَقِيلَ: يَجِب خِتَانه فِي فَرْجَيْهِ بَعْد الْبُلُوغ، وَقِيلَ: لَا يَجُوز حَتَّى يَتَبَيَّن، وَهُوَ الْأَظْهَر. وَأَمَّا مَنْ لَهُ ذَكَرَانِ فَإِنْ كَانَا عَامِلَيْنِ وَجَبَ خِتَانهمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدهمَا عَامِلًا دُون الْآخَر خُتِنَ الْعَامِل، وَفِيمَا يُعْتَبَر الْعَمَل بِهِ وَجْهَانِ أَحَدهمَا: بِالْبَوْلِ، وَالْآخَر: بِالْجِمَاعِ. وَلَوْ مَاتَ إِنْسَان غَيْر مَخْتُون فَفيه ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: الصَّحِيح الْمَشْهُور: أَنَّهُ لَا يُخْتَن صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَالثَّانِي يُخْتَن الْكَبِير دُون الصَّغِير، وَاللَّهُ أَعْلَم. وَأَمَّا (الِاسْتِحْدَاد) فَهُوَ حَلْق الْعَانَة، سُمِّيَ اِسْتِحْدَادًا لِاسْتِعْمَالِ الْحَدِيدَة وَهِيَ الْمُوسَى، وَهُوَ سُنَّة، وَالْمُرَاد بِهِ نَظَافَة ذَلِكَ الْمَوْضِع، وَالْأَفْضَل فيه الْحَلْق، وَيَجُوز بِالْقَصِّ وَالنَّتْف وَالنُّورَة، وَالْمُرَاد (بِالْعَانَةِ) الشَّعْر الَّذِي فَوْق ذَكَرِ الرَّجُل وَحَوَالَيْهِ، وَكَذَاك الشَّعْر الَّذِي حَوَالَيْ فَرْج الْمَرْأَة، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاس بْن سُرَيْج أَنَّهُ الشَّعْر النَّابِت حَوْل حَلْقَة الدُّبُر، فَيَحْصُل مِنْ مَجْمُوع هَذَا اِسْتِحْبَاب حَلْق جَمِيع مَا عَلَى الْقُبُل وَالدُّبُر وَحَوْلهمَا وَأَمَّا وَقْت حَلْقِهِ فَالْمُخْتَارِ أَنَّهُ يُضْبَط بِالْحَاجَةِ وَطُوله، فَإِذَا طَالَ حُلِقَ، وَكَذَلِكَ الضَّبْط فِي قَصّ الشَّارِب وَنَتْف الْإِبْط وَتَقْلِيم الْأَظْفَار. وَأَمَّا حَدِيث أَنَس الْمَذْكُور فِي الْكِتَاب: «وَقَّتَ لَنَا فِي قَصَّ الشَّارِب وَتَقْلِيم الْأَظْفَار وَنَتْف الْإِبْط وَحَلْق الْعَانَة لَا يُتْرَك أَكْثَر مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَة» فَمَعْنَاهُ لَا يُتْرَك تَرْكًا يَتَجَاوَز بِهِ أَرْبَعِينَ لَا أَنَّهُمْ وَقَّتَ لَهُمْ التَّرْك أَرْبَعِينَ. وَاَللَّه أَعْلَم. وَأَمَّا (تَقْلِيم الْأَظْفَار) فَسُنَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ تَفْعِيل مِنْ الْقَلْمِ وَهُوَ الْقَطْع، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَبْدَأ بِالْيَدَيْنِ قَبْل الرِّجْلَيْنِ فَيَبْدَأ بِمُسَبِّحَةِ يَده الْيُمْنَى، ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْبِنْصِر ثُمَّ الْخِنْصَر ثُمَّ الْإِبْهَام ثُمَّ يَعُود إِلَى الْيُسْرَى فَيَبْدَأ بِخِنْصَرِهَا ثُمَّ بِبِنْصِرِهَا إِلَى آخِرهَا ثُمَّ يَعُود إِلَى الرِّجْلَيْنِ الْيُمْنَى فَيَبْدَأ بِخِنْصَرِهَا وَيَخْتِم بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَم. أَمَّا (نَتْف الْإِبْط) فَسُنَّة بِالِاتِّفَاقِ، وَالْأَفْضَل فيه النَّتْف لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ، وَيَحْصُل أَيْضًا بِالْحَلْقِ وَبِالنُّورَةِ، وَحُكِيَ عَنْ يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى قَالَ: دَخَلْت عَلَى الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه وَعِنْده الْمُزَيِّن يَحْلِق إِبْطه فَقَالَ الشَّافِعِيّ: عَلِمْت أَنَّ السُّنَّة النَّتْف، وَلَكِنْ لَا أَقْوَى عَلَى الْوَجَع، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَبْدَأ بِالْإِبِطِ الْأَيْمَن. وَأَمَّا (قَصّ الشَّارِب) فَسُنَّة أَيْضًا، وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَبْدَأ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَن وَهُوَ مُخَيَّر بَيْن الْقَصّ بِنَفْسِهِ وَبَيْن أَنْ يُوَلِّي ذَلِكَ غَيْره لِحُصُولِ الْمَقْصُود مِنْ غَيْر هَتْك مُرُوءَة وَلَا حُرْمَة بِخِلَافِ الْإِبْط وَالْعَانَة. وَأَمَّا حَدّ مَا يَقُصّهُ فَالْمُخْتَار أَنَّهُ يَقُصّ حَتَّى يَبْدُو طَرَف الشَّفَة وَلَا يَحِفّهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَمَّا رِوَايَات (أَحْفُوا الشَّوَارِب) فَمَعْنَاهَا: أَحْفُوا مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَم. وَأَمَّا (إِعْفَاء اللِّحْيَة) فَمَعْنَاهُ تَوْفِيرهَا وَهُوَ مَعْنَى (أَوْفُوا اللِّحَى) فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَكَانَ مِنْ عَادَة الْفُرْس قَصّ اللِّحْيَة فَنَهَى الشَّرْع عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاء فِي اللِّحْيَة عَشْر خِصَال مَكْرُوهَة بَعْضهَا أَشَدّ قُبْحًا مِنْ بَعْض إِحْدَاهَا: خِضَابهَا بِالسَّوَادِ لَا لِغَرَضِ الْجِهَاد. الثَّانِيَة: خِضَابهَا بِالصُّفْرَةِ تَشْبِيهَا بِالصَّالِحِينَ لَا لِاتِّبَاعِ السُّنَّة. الثَّالِثَة: تَبِيضهَا بِالْكِبْرِيتِ أَوْ غَيْره اِسْتِعْجَالًا لِلشَّيْخُوخَةِ لِأَجْلِ الرِّيَاسَة وَالتَّعْظِيم وَإِيهَام أَنَّهُ مِنْ الْمَشَايِخ، الرَّابِعَة: نَتْفهَا أَوْ حَلْقهَا أَوَّل طُلُوعهَا إِيثَارًا لِلْمُرُودَةِ وَحُسْن الصُّورَة. الْخَامِسَة: نَتْف الشَّيْب: السَّادِسَة: تَصْفِيفهَا طَاقَة فَوْق طَاقَة تَصَنُّعًا لِيَسْتَحْسِنهُ النِّسَاء وَغَيْرهنَّ. السَّابِعَة: الزِّيَادَة فيها وَالنَّقْص مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ فِي شَعْر الْعَذَار مِنْ الصُّدْغَيْنِ أَوْ أَخْذ بَعْض الْعَذَار فِي حَلْق الرَّأْس وَنَتْف جَانِبَيْ الْعَنْفَقَة وَغَيْر ذَلِكَ. الثَّامِنَة: تَسْرِيحهَا تَصَنُّعًا لِأَجْلِ النَّاس. التَّاسِعَة: تَرْكهَا شَعِثَة مُلَبَّدَة إِظْهَارًا لِلزَّهَادَةِ وَقِلَّة الْمُبَالَاة بِنَفْسِهِ. الْعَاشِرَة: النَّظَر إِلَى سَوَادهَا وَبَيَاضهَا إِعْجَابًا وَخُيَلَاء وَغُرَّة بِالشَّبَابِ وَفَخْرًا بِالْمَشِيبِ وَتَطَاوُلًا عَلَى الشَّبَاب. الْحَادِيَة عَشْرَة: عَقْدهَا وَضَفْرهَا. الثَّانِيَة عَشْرَة: حَلْقهَا إِلَّا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَة فَيُسْتَحَبّ لَهَا حَلْقهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَأَمَّا (الِاسْتِنْشَاق) فَتَقَدَّمَ بَيَان صِفَته وَاخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي وُجُوبه وَاسْتِحْبَابه. وَأَمَّا (غَسْلُ الْبَرَاجِم) فَسُنَّة مُسْتَقِلَّة لَيْسَتْ مُخْتَصَّة بِالْوُضُوءِ (الْبَرَاجِم) بِفَتْحِ الْبَاء وَبِالْجِيمِ جَمْع بُرْجُمَة بِضَمِّ الْبَاء وَالْجِيم وَهِيَ عَقْد الْأَصَابِع وَمَفَاصِلهَا كُلّهَا. قَالَ الْعُلَمَاء: وَيَلْحَق بِالْبَرَاجِمِ مَا يَجْتَمِع مِنْ الْوَسَخ فِي مَعَاطِف الْأُذُن وَهُوَ الصِّمَاخ فَيُزِيلهُ بِالْمَسْحِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَضَرَّتْ كَثْرَته بِالسَّمْعِ، وَكَذَلِكَ مَا يَجْتَمِع فِي دَاخِل الْأَنْف، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْوَسَخ الْمُجْتَمِع عَلَى أَيّ مَوْضِع كَانَ مِنْ الْبَدَن بِالْعَرَقِ وَالْغُبَار وَنَحْوهمَا. وَاَللَّه أَعْلَم.. وَأَمَّا قَوْله: (وَنَسِيت الْعَاشِرَة إِلَّا أَنْ تَكُون الْمَضْمَضَة)، فَهَذَا شَكّ مِنْهُ فيها، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَعَلَّهَا الْخِتَان الْمَذْكُور مَعَ الْخَمْس، وَهُوَ أَوْلَى. وَاَللَّه أَعْلَم. فَهَذَا مُخْتَصَر مَا يَتَعَلَّق بِالْفِطْرَةِ، وَقَدْ أَشْبَعْت الْقَوْل فيها بِدَلَائِلِهَا وَفُرُوعهَا فِي شَرْح الْمُهَذَّب. وَاللَّهُ أَعْلَم. 379- قَوْله: (عَنْ جَعْفَر بْن سُلَيْمَان عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «وَقَّتَ لَنَا فِي قَصّ الشَّارِب وَتَقْلِيم الْأَظْفَار وَنَتْف الْإِبْط وَحَلْق الْعَانَة أَنْ لَا نَتْرُك أَكْثَر مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَة»). قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه وَأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ لَا نَتْرُك تَرْكًا يَتَجَاوَز الْأَرْبَعِينَ، وَقَوْله: (وَقَّتَ لَنَا) هُوَ مِنْ الْأَحَادِيث الْمَرْفُوعَة مِثْل قَوْله: أَمَرَنَا بِكَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان هَذَا فِي الْفُصُول الْمَذْكُورَة فِي أَوَّل الْكِتَاب، وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْر صَحِيح مُسْلِم (وَقَّتَ لَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَاَللَّه أَعْلَم. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْعُقَيْلِيّ: فِي حَدِيث جَعْفَر هَذَا نَظَر. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُمَر- يَعْنِي اِبْن عَبْد الْبَرّ-: لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لِسُوءِ حِفْظه وَكَثْرَة غَلَطه، قُلْت: وَقَدْ وَثَّقَ كَثِير مِنْ الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمِينَ جَعْفَر بْن سُلَيْمَان وَيَكْفِي فِي تَوْثِيقه اِحْتِجَاج مُسْلِم بِهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ غَيْره. 380- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْفُوا الشَّوَارِب وَأَعْفُوا اللِّحَى»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَأَوْفُوا اللِّحَى» هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَة فِي أَحْفُوا وَأَعْفُوا وَأَوْفُوا. وَقَالَ اِبْن دُرَيْد: يُقَال أَيْضًا: حَفَا الرَّجُل شَارِبه يَحْفُوهُ حَفْوًا إِذَا اِسْتَأْصَلَ أَخْذ شَعْره، فَعَلَى هَذَا تَكُون هَمْزَة أَحْفُوا هَمْزَة وَصْل. وَقَالَ غَيْره: عَفَوْت الشَّعْر وَعَفَيْتُهُ لُغَتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان مَعْنَى إِحْفَاء الشَّوَارِب وَإِعْفَاء اللِّحَى. وَأَمَّا (أَوْفُوا) فَهُوَ بِمَعْنَى أَعْفُوا، أَيْ اُتْرُكُوهَا وَافِيَة كَامِلَة لَا تَقُصُّوهَا. قَالَ اِبْن السِّكِّيت وَغَيْره: يُقَال فِي جَمْع اللِّحْيَة لِحًى وَلُحًى بِكَسْرِ اللَّام وَبِضَمِّهَا لُغَتَانِ، الْكَسْر أَفْصَح. 382- سبق شرحه بالباب. 383- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَرْخُوا» فَهُوَ أَيْضًا بِقَطْعِ الْهَمْزَة وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ اُتْرُكُوهَا وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِتَغْيِيرٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاض أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْد اِبْن مَاهَان (أَرْجُوا) بِالْجِيمِ قِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّل وَأَصْله (أَرْجِئُوا) بِالْهَمْزَةِ، فَحُذِفَتْ الْهَمْزَة تَخْفِيفًا، وَمَعْنَاهُ: أَخِّرُوهَا وَاتْرُكُوهَا، وَجَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «وَفِّرُوا اللِّحَى» فَحَصَلَ خَمْس رِوَايَات: أَعْفُوا وَأَوْفُوا وَأَرْخُوا وَأَرْجُوا وَوَفِّرُوا، وَمَعْنَاهَا كُلّهَا: تَرْكُهَا عَلَى حَالهَا. هَذَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ الْحَدِيث الَّذِي تَقْتَضِيه أَلْفَاظه، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى يُكْرَه حَلْقهَا وَقَصّهَا وَتَحْرِيقهَا، وَأَمَّا الْأَخْذ مِنْ طُولهَا وَعَرْضهَا فَحَسَن، وَتُكْرَه الشُّهْرَة فِي تَعْظِيمهَا كَمَا تُكْرَه فِي قَصِّهَا وَجَزّهَا. قَالَ: وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف هَلْ لِذَلِكَ حَدّ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحَدِّد شَيْئًا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتْرُكهَا لِحَدّ الشُّهْرَة وَيَأْخُذ مِنْهَا، وَكَرِهَ مَالِك طُولهَا جِدًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّدَ بِمَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَة فَيُزَال، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ الْأَخْذ مِنْهَا إِلَّا فِي حَجّ أَوْ عَمْرَة. قَالَ: وَأَمَّا (الشَّارِب) فَذَهَبَ كَثِير مِنْ السَّلَف إِلَى اِسْتِئْصَاله وَحَلْقه بِظَاهِرِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْفُوا وَانْهَكُوا»، وَهُوَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ، وَذَهَبَ كَثِير مِنْهُمْ إِلَى مَنْع الْحَلْق وَالِاسْتِئْصَال، وَقَالَهُ مَالِك وَكَانَ يَرَى حَلْقه مُثْلَة وَيَأْمُر بِأَدَبِ فَاعِله، وَكَانَ يَكْرَه أَنْ يُؤْخَذ مِنْ أَعْلَاهُ، وَيَذْهَب هَؤُلَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِحْفَاء وَالْجَزّ وَالْقَصّ بِمَعْنًى وَاحِد وَهُوَ الْأَخْذ مِنْهُ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَف الشَّفَة، وَذَهَبَ بَعْض الْعُلَمَاء إِلَى التَّخْيِير بَيْن الْأَمْرَيْنِ. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي. وَالْمُخْتَار تَرْك اللِّحْيَة عَلَى حَالهَا وَأَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهَا بِتَقْصِيرِ شَيْء أَصْلًا، وَالْمُخْتَار فِي الشَّارِب تَرْكُ الِاسْتِئْصَال وَالِاقْتِصَار عَلَى مَا يَبْدُو بِهِ طَرَف الشَّفَة. وَاللَّهُ أَعْلَم. 384- أَمَّا: (إِعْفَاء اللِّحْيَة) فَمَعْنَاهُ تَوْفِيرهَا وَهُوَ مَعْنَى (أَوْفُوا اللِّحَى) فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَكَانَ مِنْ عَادَة الْفُرْس قَصّ اللِّحْيَة فَنَهَى الشَّرْع عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاء فِي اللِّحْيَة عَشْر خِصَال مَكْرُوهَة بَعْضهَا أَشَدّ قُبْحًا مِنْ بَعْض إِحْدَاهَا: خِضَابهَا بِالسَّوَادِ لَا لِغَرَضِ الْجِهَاد. الثَّانِيَة: خِضَابهَا بِالصُّفْرَةِ تَشِْبِيهًا بِالصَّالِحِينَ لَا لِاتِّبَاعِ السُّنَّة. الثَّالِثَة: تَبْيِضُهَا بِالْكِبْرِيتِ أَوْ غَيْره اِسْتِعْجَالًا لِلشَّيْخُوخَةِ لِأَجْلِ الرِّيَاسَة وَالتَّعْظِيم وَإِيهَام أَنَّهُ مِنْ الْمَشَايِخ، الرَّابِعَة: نَتْفهَا أَوْ حَلْقُهَا أَوَّل طُلُوعهَا إِيثَارًا لِلْمُرُودَةِ وَحُسْن الصُّورَة. الْخَامِسَة: نَتْف الشَّيْب: السَّادِسَة: تَصْفِيفهَا طَاقَة فَوْق طَاقَة تَصَنُّعًا لِيَسْتَحْسِنَّهُ النِّسَاء وَغَيْرهنَّ. السَّابِعَة: الزِّيَادَة فيها وَالنَّقْص مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ فِي شَعْر الْعَذَار مِنْ الصُّدْغَيْنِ أَوْ أَخْذ بَعْض الْعَذَار فِي حَلْقِ الرَّأْس وَنَتْف جَانِبَيْ الْعَنْفَقَة وَغَيْر ذَلِكَ. الثَّامِنَة: تَسْرِيحهَا تَصَنُّعًا لِأَجْلِ النَّاس. التَّاسِعَة: تَرْكهَا شَعِثَة مُلَبَّدَة إِظْهَارًا لِلزَّهَادَةِ وَقِلَّة الْمُبَالَاة بِنَفْسِهِ. الْعَاشِرَة: النَّظَر إِلَى سَوَادهَا وَبَيَاضهَا إِعْجَابًا وَخُيَلَاء وَغِرَّة بِالشَّبَابِ وَفَخْرًا بِالْمَشِيبِ وَتَطَاوُلًا عَلَى الشَّبَاب. الْحَادِيَة عَشْرَة: عَقْدهَا وَضَفْرهَا. الثَّانِيَة عَشْرَة: حَلْقهَا إِلَّا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَة فَيُسْتَحَبّ لَهَا حَلْقهَا. وَاَللَّه أَعْلَم. وَأَمَّا (الِاسْتِنْشَاق) فَتَقَدَّمَ بَيَان صِفَته وَاخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي وُجُوبه وَاسْتِحْبَابه. وَأَمَّا (غَسْل الْبَرَاجِم) فَسُنَّة مُسْتَقِلَّة لَيْسَتْ مُخْتَصَّة بِالْوُضُوءِ (الْبَرَاجِم) بِفَتْحِ الْبَاء وَبِالْجِيمِ جَمْع بُرْجُمَة بِضَمِّ الْبَاء وَالْجِيم وَهِيَ عُقَد الْأَصَابِع وَمَفَاصِلهَا كُلّهَا. قَالَ الْعُلَمَاء: وَيُلْحَق بِالْبَرَاجِمِ مَا يَجْتَمِع مِنْ الْوَسَخ فِي مَعَاطِف الْأُذُن وَهُوَ الصِّمَاخ فَيُزِيلهُ بِالْمَسْحِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَضَرَّتْ كَثْرَته بِالسَّمْعِ، وَكَذَلِكَ مَا يَجْتَمِع فِي دَاخِل الْأَنْف، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْوَسَخ الْمُجْتَمِع عَلَى أَيّ مَوْضِع كَانَ مِنْ الْبَدَن بِالْعَرَقِ وَالْغُبَار وَنَحْوهمَا. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَأَمَّا (اِنْتِقَاص الْمَاء) فَهُوَ بِالْقَافِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَة، وَقَدْ فَسَّرَهُ وَكِيع فِي الْكِتَاب بِأَنَّهُ الِاسْتِنْجَاء، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَغَيْره: مِنْهَا اِنْتِقَاص الْبَوْل بِسَبَبِ الْمَاء فِي غَسْل مَذَاكِيره، وَقِيلَ: هُوَ الِانْتِضَاح، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة (الِانْتِضَاح) بَدَل اِنْتِقَاص الْمَاء قَالَ الْجُمْهُور: الِانْتِضَاح نَضْح الْفَرْج بِمَاءٍ قَلِيل بَعْد الْوُضُوء لِيَنْفِيَ عَنْهُ الْوَسْوَاس، وَقِيلَ: هُوَ الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ، وَذَكَرَ اِبْن الْأَثِير أَنَّهُ رُوِيَ (انْتِفَاصُ الْمَاء) بِالْفَاءِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَة، وَقَالَ فِي فَصْل الْفَاء قِيلَ: الصَّوَاب أَنَّهُ بِالْفَاءِ قَالَ: وَالْمُرَاد نَضْحه عَلَى الذَّكَر مِنْ قَوْلهمْ لِنَضْحِ الدَّم الْقَلِيل نَفْصه، وَجَمْعهَا (نُفَص) وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ شَاذّ، وَالصَّوَاب مَا سَبَقَ. وَاَللَّه أَعْلَم. وَأَمَّا قَوْله: (وَنَسِيت الْعَاشِرَة إِلَّا أَنْ تَكُون الْمَضْمَضَة)، فَهَذَا شَكّ مِنْهُ فيها، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَعَلَّهَا الْخِتَان الْمَذْكُور مَعَ الْخَمْس، وَهُوَ أَوْلَى. وَاَللَّه أَعْلَم. فَهَذَا مُخْتَصَر مَا يَتَعَلَّق بِالْفِطْرَةِ، وَقَدْ أَشْبَعْت الْقَوْل فيها بِدَلَائِلِهَا وَفُرُوعهَا فِي شَرْح الْمُهَذَّب. وَاَللَّه أَعْلَم.
|